مفهوم النصر والهزيمة في معركة "كسر العظم" في غزة لا يُفهم إلا من خلال نظرتنا للإنسان، والكون، والحياة. فالإجابة عن سؤال النصر ليست عسكرية ولا مادية، بل وجودية وفكرية.
المشهد الفلسطيني يتشكّل في وعينا وفق ما نؤمن به عرفًا ودينًا وتاريخًا، منطلقين – بوعي أو بدونه – من خلفية فكرية تصوغ فينا شعورًا بالنصر أو إحساسًا بالهزيمة، بفعل تراكمات معرفية تبني صرح الوعي وتحدد زاوية الرؤية.
من اختزل الحياة في التنفس، والأكل، والتوالد، وبناء الجحور كالفئران – مهما اختلف الشكل والحجم – لا يمكن إلا أن يتجرّع الهزيمة على يد بني صهيون، ويُسوّغ عبوديته بما يجعله يؤسس لإنسانٍ ذليل، منزوع الكرامة.
أما من دقّق في معاني الوجود، وأدرك سرّ كينونة الإنسان، فلا مفر له إلا أن يستخرج من قلب الدمار أدلّة الانتصار، ويرى في وسط الخراب حجج النصر وهزيمة الكيان، ومن خلفه الغرب كله.
ما يجري في غزة ليس معركة عابرة، بل حلقة من حرب طويلة بدأت عام 1948، بل قبلها، إبّان الانتداب البريطاني. إنها آخر فصول الصراع بين الشرق والغرب، في مسلسل احتلال ومقاومة وتحرر تعيشه أمتنا منذ قرون. ولن تكون هذه المعركة الأخيرة، لكنها مفصلية ومصيرية، وقد دقّت كل أسافين الانهيار في بنية الكيان المحتل.
من يحيا نفسه عزيزة، وروحه حرّة تأبى الرقّ والتذلّل، يعيش مبتسمًا إن ثار وناضل وجاهد وقاوم. فكلّ شيء هين إن خسره، ما دام قد تقمّص منبر عزّة الإنسان وحرية الروح، تلك التي لا تكون تحت الحصار والاحتلال. فباطن الأرض نصرٌ عند الحر، والهزيمة أن يشترك مع محتله في الهواء، حتى لو عاش ملكًا، فلا قيمة للملك بلا حرية.
المقاومة في غزة تسطّر أروع ملاحم الانتصار. يكفي صمودها لأكثر من سنتين في وجه آلة عسكرية متطوّرة، مدعومة من حلف صهيوصليبي تقوده أمريكا، دون أن تسمح للعدو بتحقيق أهدافه أو تمرير مشاريعه. بل إنها مرّغت هيبته وقراراته في تراب غزة، وهذا نصرٌ بيّن.
خسائر الكيان بلغت مستويات غير مسبوقة، وما تكبّده في هذه المعركة يفوق ما خسره في كل حروبه السابقة مع الجيوش.
فقد منطق الردع، وتلاشت هيبة جيشه على الأرض. في المقابل، ربحت فلسطين هيبة المقاوم، وهيبة الإنسان الذي لا يُهزم.
خسر الكيان سياسيًا، وعالميًا، وعسكريًا، واقتصاديًا، وأنفق كل شيء بلا نتيجة سوى إبادة شعب، في مشهد دعس جنوده وتفجير دباباته.
خسر عمقه الداخلي، واهتزت نفسية اليهودي الذي بات حائرًا بين البقاء والرحيل، وهو يرى الآلاف يغادرون إسرائيل في هجرة عكسية. في المقابل، تشتدّ حماسة المقاومة، وتزداد عزيمتها في صدّ العدوان، وصناعة مستنقع الموت الذي يغرق فيه المحتل.
ربحت المقاومة العالم، وأثبتت أنها لاعب سياسي بارع، أزاح القناع عن وجه اليهودي "الإنساني الديمقراطي المتحضّر".
المقاومة تمارس السياسة من داخل خندق النصر، وتفاوض ببسالة، وتُحسن الإيغال في دم الجنود المحتلين، بقتل حثالة الأمم كالجرذان، وحرقهم في أفران الجبن التي تُسمّى مدرّعات.
أما التضحيات والدمار والإبادة وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، فهي الثمن الذي لا بد منه. فلا تحرير بلا ماكينة مقاومة، ولا اشتغال لهذه المنظومة إلا بالتضحيات الجسام. وشجرة الحرية لا تُسقى إلا بالدماء.
من يقف على تضحيات الشعب الفلسطيني لينكر على المقاومة فعلها، بألف حجة مادية، يشبه أولئك الذين وقفوا ضد مقاومة الاحتلال الغربي لأمتنا، وبنفس الحجج الانهزامية. ولولا المقاومة، لما استقلّت شعوب، ولا تحرّرت أمم.
لقد انتصرت المقاومة بالأمس، وبلع المنهزمون ألسنتهم. وتنتصر اليوم، وستفرح الإنسانية قريبًا بإزالة ورم بني صهيون الخبيث. وسيصمت من اتهم المقاومة بإهراق دم شعبها، إن بقي في أفواههم ريق.
المقاومة خُلقت لتنتصر.
وعدو الإنسانية خُلق ليُذل.
هو ناموس كوني، وسنّة شرعية، لا تغيّرها مفاهيم خاطئة.
النصر أمرٌ راهن، نعيشه كل يوم، في سطور تُكتب من زوايا مختلفة، في مسار تحرير أرض مقدّسة، يُكتب تاريخها بالدم، ولا شيء غير الدم.
النصر ليس حدثًا يُعلن، بل وعيٌ يُستيقظ في قلب من رفض أن يُهزم.
الهزيمة ليست في سقوط الجسد، بل في خيانة المعنى حين تُختزل الحياة في البقاء.
وغزة، بدمها، تعيد تعريف الإنسان، وتكتب للكون درسًا لا يُمحى.
عبد الحليم الفزازي 🖊
فكرة جمع مقالاتك في هذه المدونة الجميلة المباركة هي في حد ذاتها تحمل في طياتها جمع شمل شتات بنات الافكار... و لم المقالات إلى بعضها البعض تعطي فكرة واضحة عن صاحب المدونة ... واصل إبداعك وواصل القصف ولا تبالي ... تحياتي من متابع مجهول
ردحذف