منذ اللحظة التي فصل فيها السودان عن مصر بدأت أول خيوط المؤامرة التي استهدفت ليس السودان وحده بل مصر والعالم العربي بأسره فقد كان السودان طوال تاريخه امتدادا طبيعيا لمصر وشريكا عضويا لها في النيل والتاريخ والمصير ومنذ دخول الاحتلال البريطاني إلى مصر عام 1882 بدأ التفكير في عزل مصر عن عمقها الافريقي وقطع شريانها الجنوبي الذي يمدها بالحياة لأن بريطانيا كانت تدرك أن قوة مصر تكمن في امتدادها الجغرافي نحو السودان وأن وحدة وادي النيل تعني ولادة كيان عربي افريقي قادر على مواجهة النفوذ الغربي
لذلك وضعت بريطانيا منذ البداية نظاما استعماريا مزدوجا في السودان أطلقت عليه اسم الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا لكنه في الحقيقة كان حكما بريطانيا خالصا فكل السلطات والقرارات كانت بيد الإدارة البريطانية بينما كان الوجود المصري رمزيا لا يتجاوز الأعلام والشكليات كانت بريطانيا تعمل بهدوء على صناعة هوية سودانية منفصلة عن الهوية المصرية وعلى ترسيخ فكرة أن السودان كيان مستقل ثقافيا وسياسيا حتى إذا ما حان الوقت يصبح الانفصال أمرا طبيعيا لا رجعة فيه
وعندما قامت حركة الضباط الأحرار بالإنقلاب العسكري في مصر عام 1952 على النظام الملكي وأطاحت بالملك فاروق وصعد جمال عبد الناصر إلى الحكم كان أمام واقع معقد فقد كانت بريطانيا تلوح بورقة السودان في وجه النظام الجديد وتهدد بأن بقاء السودان تحت التاج المصري سيعرقل مفاوضات الجلاء وكان عبد الناصر يبحث عن أي سبيل لإخراج القوات البريطانية من قناة السويس بأي ثمن فقبل بفكرة منح السودان حق تقرير المصير في اتفاقية عام 1953 التي مهدت الطريق لاستقلال السودان عام 1956
وهكذا تحقق الحلم البريطاني القديم دون أن تطلق رصاصة واحدة فقد جرى فصل السودان عن مصر سلميا لكن الخسارة كانت فادحة فقد فصلت مصر عن عمقها الافريقي وبدأ السودان رحلته في بحر من العزلة والمؤامرات والتمزقات الداخلية وكان ذلك أول مسمار في نعش وحدة وادي النيل وأول خطوة في مشروع تفكيك المنطقة
بعد أن تحقق لبريطانيا هدفها الأول بدأت المرحلة الثانية من المخطط وهي تفكيك السودان نفسه من الداخل كانت تعلم أن هذا البلد الشاسع لا يمكن إخضاعه بسهولة بقوة السلاح لكنه يمكن تفجيره من داخله عبر إثارة النعرات القبلية والدينية والعرقية فبدأت بتغذية الانقسام بين الشمال المسلم العربي والجنوب الافريقي المسيحي والوثني وأقامت إدارة مزدوجة بين المنطقتين ومنعت التواصل الثقافي واللغوي بينهما وأغلقت المدارس العربية في الجنوب وفتحت بدلا منها مدارس تبشيرية تزرع في الأجيال الجديدة روح الكراهية تجاه الشمال
وبعد عقود من هذه السياسة الاستعمارية الماكرة جاءت الحرب الأهلية الأولى في الجنوب لتكون نتيجة طبيعية لتلك السياسات فاشتعلت البلاد ثم خمدت ثم اشتعلت من جديد حتى انتهت أخيرا بانفصال الجنوب عام 2011 بدعم أمريكي إسرائيلي واضح لأن الغرب أراد أن يجعل من دولة الجنوب قاعدة مراقبة وتحكم في منابع النيل وخنجرا في خاصرة السودان الشمالي
ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الدوامة فدارفور تحولت إلى ساحة نزاع مسلح تغذيه القوى الغربية بذريعة حماية المدنيين وجنوب كردفان والنيل الأزرق تحولا إلى جبهات مفتوحة وكل ذلك كان مقدمة لما نراه اليوم من اقتتال دموي بين الجيش وقوات الدعم السريع صراع على السلطة ظاهره داخلي وباطنه صراع دولي على من يحكم السودان ومن يسيطر على ثرواته من الذهب واليورانيوم والنفط
ان الغرب لم ينس يوما ان السودان بلد عربي مسلم افريقي بحجم قارة يملك ثروات زراعية ومعدنية قادرة على جعل العالم العربي مستقلا عن الغرب في غذائه وموارده فكان لابد من تحطيمه وتقسيمه حتى لا يقوم له كيان سياسي موحد ولذلك نرى اليوم عواصم غربية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة وتدفع بالأطراف إلى الحرب كما فعلت بالأمس في ليبيا واليمن لأن الهدف واحد هو تفكيك كل ما يمكن أن يشكل قوة ذاتية في الشرق الأوسط
أما إسرائيل فهي المستفيد الأكبر من كل ما يحدث فهي التي دعمت التمرد الجنوبي منذ الخمسينيات وزودته بالسلاح والتدريب لأنها كانت تدرك أن السودان إذا بقي موحدا وقويا سيكون عمقا استراتيجيا لمصر وللعالم العربي وسيغلق على إسرائيل بوابة البحر الأحمر من الجنوب لذلك عملت بكل الوسائل على تقسيمه وإضعافه حتى صار اليوم ميدانا مفتوحا لمشاريعها السرية والعلنية
وهكذا من فصل السودان عن مصر إلى فصل الجنوب عن الشمال ومن فتنة دارفور إلى حرب الخرطوم الأخيرة يبدو المشهد وكأنه خريطة واحدة رسمت بعناية في مكاتب الغرب لتفكيك هذا البلد العظيم الذي كان يمكن أن يكون نموذجا للوحدة العربية الافريقية الإسلامية فإذا بنا أمام بلد ممزق منهك تلتهمه الحرائق من كل صوب ومع ذلك يبقى الأمل قائما لأن السودان رغم الجراح يملك من الثروات والرجال والإيمان ما يجعله قادرا على النهوض من تحت الركام إذا أدرك ابناؤه حجم المؤامرة وتوحدوا على مشروع وطني جامع يعيد للسودان دوره الطبيعي في قلب الأمة لا على هامشها.
عبد الحميد الرحا 🖊

