خرج من السجن بعد عشرين عامًا، لكنه لم يجد في بيته بيتًا، ولا في عائلته عائلة.
الزوجة التي كانت تزوره وتحمل على كتفيها مشاق السفر والقفة، أنهكتها السنين وتعلّمت كيف تعيش بدونه. والابنة التي تركها طفلةً تقبض أصابع يده في طريق المدرسة، صارت شابةً تتجنّب قربه، وكأنها تخجل أن يكون أبوها ذلك الغريب العائد من زمن آخر.
أعطته المؤسسة تريبورتور ليبدأ حياة جديدة، لكنه تحوّل إلى سريره وملجئه في الشارع. يدخل بيته قليلًا، ينام خارجه كثيرًا، ويجلس في المقهى وحيدًا. لا أصدقاء له سوى الذين تقاسموا معه جدران الزنازين وساعات التحقيقات. يعبّئ هاتفه ليهاتفهم بالساعات، يستعيدون تفاصيل السياسة وأخبار المعتقلين. هناك فقط يشعر أنه مفهوم، أنه ليس رقمًا ضاع في قوائم الحرية.
حياته اليوم غريبة عنه، أقرب إلى منفى داخلي. يقول لي: "اتركني مع الماضي، فهو أجمل وأوضح. هناك كنتُ أباها، كنتُ رجلًا، كنتُ شيئًا. اليوم أنا ظلّ لا تعرفه ابنته ولا ترغب فيه زوجته."
وتبقى ذاكرته تمشي به إلى صباح بعيد، حين كانت يد صغيرة تتشبّث بأصابعه في الطريق إلى المدرسة. يقول: "ما زلت أشعر بحرارتها في كفي، ما زال الحنين يضربني لأضمّها إلى صدري. لكنّها تبتعد، تبتعد بسرعة."
عبد الفتاح الحيداوي 🖊