في جوف الصحراء، حيث كانت قوافل التاريخ تمرّ دون أن تلتفت، وُلدت نملةٌ لا تُشبه النمل.
ليست من جند سليمان، ولا من حكايات ابن المقفع، بل من سلالةٍ أخرى: سلالة الخزائن الحيّة.
تعلّقت في سقف العش كما تعلّقت زنوبيا بأمل النجاة، وانتفخ بطنها كما انتفخت خزائن قرطبة بالعلم، لا بالذهب.
لم تسعَ وراء الطعام، بل صارت هي الطعام، كما صار الجنيد حالًا لا يُفسّر، حين قال: "علمنا هذا مُقيدٌ بالكتاب والسنة".
وحين يشتدّ القيظ، وتذبل الحياة، تأتي النملات إليها كما جاء أهل الكهف إلى فتيةٍ يحملون سرّ النجاة.
تُقطّر من بطنها قطرةً، لا تُشبه الماء، بل تُشبه الرحمة حين تتجسّد.
قطرةٌ تُعيد التوازن، كما أعاد سقراط للعقل هيبته، وكما أعاد صلاح الدين للقدس صلاتها.
فمن علّمها هذا الدور؟
من ألهمها أن تكون ثلاجةً في جوف الرمل، وصيدليةً في قلب العدم؟
إنه التدبير الإلهي، الذي لا يُرى، لكنه يُحسّ، كما يُحسّ القلب حين يسجد دون أن ينطق.
قال تعالى:
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾
نملةٌ واحدة، لكنها تكتب على الرمل ما عجزت عنه كتب الفلاسفة:
أن العطاء لا يحتاج صوتًا، وأن الحكمة قد تسكن جسدًا لا يُرى، وأن الله لا يغفل عن شيء… حتى عن نملةٍ في سقف العش.
منفى الرمل وقطرة الرحمة
هناء مبارك✍