حين يباع الصوت ب200 درهم ، فماذا يشترى..؟
هل سمعتم عن مصطلح الوعي الجمعي؟ هذا المفهوم ليس فكرة نظرية تُدرّس في الكتب، بل هو صوت المجتمع حين يستيقظ من نومه الطويل.
هو تلك اللحظة التي يدرك فيها المواطن أن السياسة ليست لعبة بين النخب، بل هي شكل حياته اليومية: في المدرسة، في المستشفى، في ثمن الخبز، وفي كرامته حين يقف أمام صندوق الاقتراع.
لكن في مجتمعات تتأرجح بين التقليد والحداثة، يبدو هذا الوعي متردّدًا بين الرغبة في اليقظة وراحة الغفلة.
يتحدث الناس عن السياسة بنبرة اللامبالاة، وكأنها شأن لا يعنيهم.
جملة “كلهم بحال بحال” أصبحت تعويذة تبرّر الصمت، لكنها في حقيقتها تعكس جرحًا جماعيًا: جرح الثقة المفقودة.
وهنا، يصبح الإنسان “عبدًا للواقع الذي لا يجرؤ على تغييره”. هيغل
في ذلك الحين يحدث سقوط أخلاقي للوعي
حين تُشترى الأصوات بـ200 درهم على سبيل المثال، هنا لا يُشترى الصوت، بل يُشترى الصمت.
في هذه اللحظة، يُختزل الإنسان إلى حاجته المادية، وتُختصر المواطنة في معاملة نقدية.
200 درهم ليست ثمنًا للصوت، بل ثمنًا للتخلي عن الذات.
كتب جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي":
> “يولد الإنسان حرًّا، ومع ذلك فهو في كل مكان مكبّل بالأغلال.”
والأغلال هنا لم تعد سلاسل من حديد، بل قناعة داخلية بالعجز.
فالمواطن الذي يبيع صوته، يظن أنه يربح في اللحظة، لكنه في الحقيقة يستأجر فقره لخمس سنوات قادمة.
شراء الأصوات ليس فسادًا انتخابيًا فحسب، بل هو نقض للعقد الأخلاقي بين الفرد والجماعة.
لأن الوعي الجمعي لا يقوم إلا حين يؤمن الناس بأن أصواتهم جزء من مصيرهم، لا سلعة في سوق المزايدة.
يطرح كارل ماركس فكرة الاقتصاد و الخضوع في قوله إن الإنسان المغترب يبيع نفسه مرتين:
مرة حين يبيع عمله في السوق، ومرة حين يبيع صوته في السياسة.
في الحالتين، يُعاد إنتاج الاستغلال بأدوات مختلفة.
أما ميشيل فوكو فيُضيف في نفس السياق بأن السلطة لا تحتاج دائمًا إلى القمع، بل إلى خطاب يجعل الخضوع يبدو عقلانيًا.
حين يقول أحدهم: “200 درهم أحسن من والو”، فهو لا يبرّر الفساد فقط، بل يبرّر استعباده الذاتي.
إنه لا يُكره على البيع، بل يُقنع نفسه أنه اختار بحرية — وهذه هي ذروة السيطرة.
وسط هذا الركام من الإحباط، يلوح أمل جديد، أمل أكثر جرأة على مواجهة الزيف.
أمل يسخر من السياسة لا ليفرّ منها، بل ليُعرّي هشاشتها.
أمل يرفض أن يُشترى، ويؤمن أن كرامته لا تُقدّر بثمن.
ربما لا يثق بالأحزاب، لكنه يثق في قدرته على قول “لا”.
ومثلما قالت حنة أرندت:
“السياسة تبدأ حين نخرج من الصمت.”
وهذا الأمل بدأ يخرج من الصمت — ليس بالشعارات، بل بالسؤال:
لماذا أبيع صوتي وأنا الذي أدفع ثمن كل وعد كاذب؟
الوعي الجمعي لا يُنزل من السماء، بل ينبت من الألم اليومي، من الإحساس بأن الفقر ليس قدَرًا بل نتيجة لمنظومة غير عادلة.
وحين يتحوّل الوعي من شكوى إلى إرادة، تُفقد (الـزرقلاف) سحرها، ويستعيد المواطن كرامته كفاعل لا كضحية.
قد يبدو التغيير بطيئًا، لكنه يبدأ دائمًا من لحظة وعي صغيرة — من سؤال واحد في ذهن شاب أو امرأة:
“هل أستحق أكثر من هذا؟”
حينها فقط، تتحوّل السياسة من مسرح للصفقات إلى فضاء للكرامة.
إذن لنستمع للمواطن الذي باع صوته
“200 درهم... مبلغ بسيط، لكنني كنت محتاجًا.
قلت في نفسي: وماذا سيتغيّر إن لم أبع؟ سيكسب غيري المال وسيفوز نفس المرشح.
أخذت الورقة النقدية، وضعتها في جيبي، أحسست بثقل غريب.
في تلك الليلة، وأنا أعدّها، شعرت كأنها تحرق أصابعي.
أدركت أنني لم أبع صوتي فقط، بل بعت قدرتي على الغضب.
بعت لحظة الصدق التي كان يمكن أن أقول فيها: لا.
منذ ذلك اليوم، كلما اشتكيت من الغلاء، تذكّرت الورقة التي قبضتها وصمتُّ.
لم يكن الصمت خيارًا، بل عقوبة اخترتها بيدي.
الآن أفهم... الحرية لا تُشترى، لكنها تضيع حين نضع ثمنًا لها.”
و ختاما، يمكن القول بأن الوعي الجمعي ليس صرخة واحدة، بل تراكم أصوات صغيرة ترفض البيع والسكوت.
وفي اللحظة التي يدرك فيها المواطن بأن صوته لا يُقدّر بثمن،
تبدأ ولادة جديدة: ولادة مواطن لا يُشترى،
بل يختار أن يكون حرًّا، مهما كان الثمن.
“الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع حين يدرك الناس أنهم أحرار منذ البداية.”
حليمة مكواري 🖊

